فصل: تفسير الآيات (95- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (95- 96):

{إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}.
التفسير:
بعد أن شهد الظالمون المشركون هذا المشهد الذي تقطت له أنفاسهم، من مشاهد يوم القيامة، ردّوا إلى ما كانوا فيه من تلك الحياة التي كانوا يحيونها، مع أموالهم وأولادهم وأصنامهم، وما كانوا عليه من عناد وخلاف مع النبيّ، وما كان يدعوهم إليه من التعرف إلى اللّه والإيمان به.
وهنا تلقاهم كلمات اللّه وآياته، يرتّلها المؤمنون، تمجيدا للّه وتسبيحا بحمده، وإذا هذه الآيات، وتلك الكلمات، هي استعراض لجلال اللّه، الذي كانوا منذ لحظات بين يديه، في هذا الموقف العظيم، الذي طلع عليهم منه ما لم يكونوا يحتسبون، من شدة وبلاء.
{إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}.
ذلكم هو اللّه، وتلك هي بعض آثار قدرته.. فلينظروا في هذا الذي أبدعته القدرة القادرة، التي قام سلطانها على كل شيء، ونفذ علمها إلى كل شيء..!
فهذه الحبة الصغيرة، التي لا تكاد تمسك بها العين، يفلقها الخالق العظيم فيخرج من كيانها الضعيف، وجرمها الصغير، شجرة عظيمة مورقة مزهرة مثمرة..!
وهذه النواة اليابسة، التي لا يتجاوز جرمها جرم حصاة صغيرة، يفتّقها الخلّاق العليم، فيخرج من أطوائها نخلة باسقة، تطاول السماء، وتناطح السحاب.
{إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} وفلق الحبّ والنوى.. شقّه، حين يغرس في مغارس الإنبات، فيفتّق كما تفتّق الأرحام عند الولادة لتخرج ما فيها من أجنّة.. ومن بين هذا الحبّ والنوى.. الميت الهامد.. تخرج الحياة ممثلة في شجيرة صغيرة، أو نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة.
وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} هو خبر ثان لـ (إنّ) في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى}.
وقوله سبحانه: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} عرض لصورة أخرى من صور الإبداع في الخلق.. وهو أنه سبحانه إذ يخرج الحىّ من الميت، فإنه سبحانه يخرج الميت من الحىّ، كهذا الحبّ وذلك النوى فإنهما من مواليد النبات الحىّ النامي.
وفى هذا العرض للإحياء والإماتة، والإماتة والإحياء، مثل ظاهر يرى فيه الإنسان العاقل صورة لحياته هو.. وأنه كان في عالم الموات، ثم إذا هو كائن حىّ عاقل.. ثم إذا هو مردود إلى عالم الموات مرة أخرى.. فهل تعجز القدرة الإلهية عن ردّه مرة ثانية إلى الحياة؟ إن ذلك- في تقدير الإنسانية- أمر أهون مما سبقه من إيجاد الحياة من العدم!! {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28: البقرة].
وقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى اللّه، سبحانه، وأنه هو الإله الحق الذي لا ينبغى لعاقل أن يتخذ إلها غيره.. فذلكم هو اللّه، وتلك هي بعض آثار قدرته.
وقوله سبحانه: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} إنكار على هؤلاء الضالين، أن يكون لهم متجه غير اللّه، ثم هو دعوة مجدّدة لهم أن يتركوا هذا الطريق الآثم الذي هم فيه، وإلا كانوا في الهالكين.
والإفك، هو الباطل والبهتان، والميل عن طريق الحق إلى الضلال.
قوله تعالى: {فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً} هو استمرار لعرض آيات من قدرة اللّه، حتى إذا كان هناك من تنبّه من غفلته من هؤلاء الضالين، بعد أن رأى ما رأى من آيات اللّه في خلق الحب والنوى، وخلق الحىّ من الميت، والميت من الحىّ، وبعد أن نبهه صوت الحقّ إلى ما هو فيه من ضلال وغفلة- إذا كان هناك من تنبّه لهذا، وجد بين يديه هذا النور الذي يكشف له معالم الطريق إلى اللّه، فيما يشهد من آثار صنعته في هذا الوجود.
{فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً} فذلك مما خلق، الخالق، وأبدع البدع.
وفى قوله تعالى: {فالِقُ الْإِصْباحِ} مقابلة بين فلق النواة التي تخرج منها أجنّة الحياة ومواليدها، من عالم النبات، وبين فلق الإصباح، أي الصبح الذي يتفتق من تفتّقه الحياة، التي يستولى عليها سلطان النهار، ويغذيها ضوء الإصباح.. فهذه الكائنات المتحركة في ضوء الإصباح، والمنتشرة على بساط ضوئه في النهار، هي المواليد التي تفتح عنها الضوء، وبعث فيها الدفء والحياة، كما يتفق الحبّ والنوى عن هذه الحياة التي تتمثل في عالم النبات.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} هو في مقابل: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}.
حيث يكون الليل همودا وسكونا أشبه بالموت الذي يسبق الحياة.
وقوله سبحانه: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً} أي وجعل الشمس والقمر ليتعرف بهما على حساب الأيام والشهور، إلى جانب ما لهما من آثار كثيرة أخرى في الحياة.. فالحسبان، هو الحساب والتقدير.
وقوله تعالى: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إشارة إلى أن وضع هذه المخلوقات بموضعها الذي هي فيه، وتسخيرها على هذا الوجه الذي تقوم به في الحياة- هو من تدبير اللّه، ومن تقدير حكمته وسلطان علمه وعزته.

.تفسير الآيات (97- 99):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}.
التفسير:
تتابع الآيات في عرض مبدعات القدرة الإلهية وتدبيرها أمر هذا الوجود، والهيمنة على نظامه البديع.
فمن مبدعات القدرة الإلهية، هذه النجوم التي هي زينة للناظرين في هذا السقف المرفوع، وهى علامات للسائرين ليلا في البر أو البحر.
وفى إضافة الظلمات إلى البر والبحر إشارة إلى أن الظلام هو الذي يلبسهما ويستولى عليهما، فكأن السائر في الليل، يقطع قطعا من الظلام، سواء أكان في البر أو البحر.
والمراد بالظلمات هنا، ليس هو الظلام الذي يلبس الوجود في الليل، وإنما هي هذا التيه الذي يستولى على راكب البحر، أو راكب الصحراء أو نحوها، في الليل، حيث لا يعرف الإنسان أين يتجه، وهو في هذا الكون الفسيح الذي لا معلم فيه.. والنجوم هي المعالم التي تكشف لراكب البحر أو الصحراء طريقه، وتشير له إلى متجهه، نحو الشرق أو الغرب، أو الشمال أو الجنوب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [16: النحل] ومن مبدعات القدرة الإلهية أن عالم الإنسان- وهو واحد من عوالم كثيرة لا تحصى- هو ثمرة نفس واحدة، كان منها هذا العالم الإنسانى كله، في أممه، وشعوبه، المنتشرة في آفاق الأرض كلها. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ}.
وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي فمستقر ومستودع هو الذي تتوالدون منه وتتكاثرون، والمستقر هو النطفة في صلب الرجل، والمستودع هو النطفة تستودع في رحم المرأة.. ومن المستقر والمستودع يكون التناسل والتوالد.. أو فمستقر على الأرض مدة حياتكم، ومستودع في باطنها بعد موتكم.
وفى فاصلة الآية هنا: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}، وفى الفاصلة قبلها {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} توافق كلّ فاصلة مع الحال الداعية إليها في آيتها.
فعملية الخلق، والتوالد، والتناسل، عملية تحتاج إلى دقة نظر، ومزيد علم، ولهذا كان مطلوبها أن ينظر فيها من يعلم، ويتدبر ما لا يعلم، وهو الفقيه.
{لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.
أما النجوم وما يأخذ النظر منها من هداية في الظلام، فلا يحتاج من يريد التعرف على هذه الخاصة منها إلى أكثر من نظر يفيد علما بالواقع كما هو:
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
ومن مبدعات هذه القدرة، هذا الماء المنزل من السماء، أي من جهة عالية، تعلو وجه الأرض، فكل ما علا الأرض فهو سماء.. فمن هذا الماء يخرج كل حىّ، من إنسان وحيوان ونبات.. كما يقول سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [30: الأنبياء] ثم خصّ اللّه سبحانه بالذكر هنا عالم النبات، إذ كان أكثر الكائنات الحية تفاعلا مع الماء واعتمادا عليه.. إذ هو غذاؤه وحياته، لا شيء له غيره، به يحيا، وبفقده يذيل ويموت.. أما الكائنات الأخرى، وإن كان الماء حياتها كالنبات تماما، إلا أنها تعتمد على أشياء أخرى تقوم إلى جانب الماء لتمسك عليها الحياة، وهو ما يتغذّى من طعام.
وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً} أي نباتا ذا خضرة، حيث الخضرة هي الروح السارية في حياة النبات، وبغير تلك الخضرة لا ينبض فيه عرق الحياة أبدا.
وقوله سبحانه: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً} أي من هذه الخضرة التي تمسك حياة النبات وتمده بالقوة والنماء- من هذه الخضرة يبلغ النبات غايته من النماء، فيزهو، ويثمر، ويخرج حبا متراكبا، أي يركب بعضه بعضا، كما هو الشأن في سنابل القمح، وعناقيد العنب ونحوهما.
وقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ} أي كما أخرجنا من الخضر حبا متراكبا، كذلك كان شأن النخل، الذي نخلق من طلعه قنوانا دانية.
والطلع، لقاح النخل، والقنوان: جمع قنو، وهو العذق، أي سباطة البلح أو الكباسة.
وفى هذا الذي بين طلع النخل، وما يتخلق منه من قنوان دانية الثمر، ما يلفتنا إلى الخضر الذي في النبات وما ينشأ عنه من حبّ متراكب.
وكأن هذه الخضرة هي اللقاح الذي لولاه ما أثمر نبات.
وفى وصف القنوان بأنها قنوان دانية، مع أنها قد تكون والنخلة سابحة في السماء- في هذا الوصف ما يشير إلى اشتهاء النفس لهذا الثمر الذي يحمله النخل، وتطلعها إليه، ورغبتها فيه- الأمر الذي يجعل بعيده قريبا، وكلّ صعب في الوصول إليه هينا.. هكذا المحبوب المشتهى أبدا.
وقوله سبحانه: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ} معطوف على قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي وأخرجنا به- أي بالماء- جنات من أعناب وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} معطوف على جنات من أعناب.
وقوله سبحانه: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ} أي أن الزيتون والرمان، منه ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما يختلف بعضه عن بعض.. في اللون، أو الحجم، أو الطعم.
ويمكن أن يفهم قوله تعالى: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ} على وجه آخر.
وهو أن هذه الأشجار من الزيتون والرمان، وإن بدت أفراد كل جنس منها متشابهة في هيئتها وثمارها، إلا أنها في حقيقة أمرها غير متشابهة، فبين كل شجرة وأخرى فروق دقيقة، في هيئنها، وفى ثمارها.. وهذا من بديع صنع اللّه، ومن كمال قدرته.. حيث تتنوع أفراد الجنس الواحد.. شجرة شجرة، وتختلف ثمرات الشجرة.. ثمرة ثمرة.. وعلى هذا تكون الواو في قوله تعالى: {وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ} وهى واو الحال، والجملة بعدها حالية.
وذلك في قراءة من قرأ وغير بالرفع، أي يبدو مشتبها، والحال أنه غير متشابه، وهذا هو السرّ في اختلاف النظم بين مشتبه ومتشابه!! وقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} إغراء بتوجيه النظر، وإعمال الفكر في هذه المخلوقات، وما يجيء منها إلى الناظر إليها وهى في حال إزهارها وإثمارها، من جمال رائع، وحسن فتّان، يشيع في النفس البهجة والمسرّة، ويثير في العقل أشواقا وتطلعات إلى التعرف على أسرار هذا الجمال واستكشاف ينابيعه ومصادره الأولى التي يجيء منها.
والإنسان إذ يلقى الطبيعة وهى في نضارة شبابها، وروعة حسنها، إنما يتيح له ذلك مجالا فسيحا للاندماج بها، والتعايش معها، الأمر الذي يسمح للطبيعة أن تبوح له بكثير من أسرارها، وتأتمنه على الكثير مما احتفظت به في كيانها، وضنّت به على من لا يدنون منها، ولا يتعاطفون معها.
أليس هذا شأن كل أمر يريد الإنسان أن ينتفع منه، ويملأ يديه من الخير الذي فيه؟. إنه لن ينال شيئا من أي أمر يعالجه، ويريد فتح مغالقه، إلا إذا تألّفه وأحبّه وأنس به، وأقبل عليه في حبّ وشوق! ومن هنا كانت دعوة القرآن بالنظر إلى الطبيعة وهى في حلل جمالها وبهائها- هي في الواقع دعوة ضمنية إلى التزود من العلم والمعرفة، إذ يكون النظر إليها في تلك الحال نظرا جادّا، باحثا، مستلهما، لا نظرا عابثا، لاهيا، متفكها بألوانها، وأصباغها.
وانظر إلى معارض هذه الآيات الكريمة، وما يحمل كل معرض منها من دعوة إلى أناس كلّهم طلاب علم، ولكنّهم درجات متفاوتة، فيما يعلمون!.
النجوم... {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
وخلق الناس من نفس واحدة... {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.
والماء وأثره في الحياة، وفى عالم النبات.. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
فهذه النظرات المردّدة في الكون.. تجيء أول ما تجيء بالعلم، فإذا كان لصاحب هذا العلم نظرة تجمع الحقائق الجزئية، وتقيم منها حقائق كلية.. كان علمه هذا فقها. فإذا اتخذ من هذه الفقه مادة لجمع الحقائق الكلية ودرجها تحت حقيقة كليّة كبرى، كان فقهه هذا هو الإيمان..
الإيمان القائم على النظر الاستدلالي، والبحث الاستقصائى، لا على الإيمان التقليدى، الذي يعتمد على مشاعر غامضة، ووجدانات باهتة، لا تصل الإنسان باللّه إلا بخيط واه ضعيف ينقطع عند أول هزّه تمرّ به.

.تفسير الآيات (100- 103):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}.
التفسير:
وإذ انتهت المعارض التي عرضها اللّه سبحانه وتعالى في الآيات السابقة، شاهدا يشهد لوجوده، ودليلا يدل على قدرته وعلمه وحكمته- إذ انتهت هذه المعارض بأرباب العقول إلى أن يهتدوا بها، ويؤمنوا باللّه على هديها- فإن كثيرا من الناس قد عموا عن هذه الآيات، فلم يروا فيها بصيصا من النور يقودهم إلى اللّه، ويفتح قلوبهم وعقولهم للإيمان به، ولهذا جاءت الآيات بعد هذا تنعى على هؤلاء موقفهم، وتفضح على الملأ حمقهم وجهلهم.
فقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
ويلاحظ أنه لم يجر لهؤلاء الذي تحدّث عنهم الآية الكريمة، ذكر من قبل، بل جيء بهم هكذا في هذا الموقف، حتى لكأنهم كانوا قد أعدّوا من قبل لهذا الذي هم فيه الآن في موضع التجريم، والاتهام.. وهذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين باللّه كاوا على حال ظاهرة من الشرك، بحيث يعرفهم كل أحد، ويستدل عليهم كل من يريد أن يمسك بأهل الشرك، ويضع يده عليهم، دون بحث أو معاناة.
وفى اتخاذهم الجنّ شركاء، إشارة إلى أن الجنّ هم الذين زينوا لهم الشرود عن اللّه، وعبادة كل من عبدوه من دون اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
التعبير بخرقوا في مقابل خلق إشارة إلى أن هذا الذي نسبه المشركون إلى اللّه من بنين وبنات، حين قالوا عن الملائكة إنهم بنات اللّه، كما قال اللّه، تعالى عنهم: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} [19: الزخرف]- هذا الذي نسبوه إلى اللّه، هو من تلقيات أوهامهم الضالة، وأهوائهم الفاسدة، وأنه خرق واختلاق، لا يقوم على علم، ولا يستند إلى معرفة.. إنه خرق لناموس الحقّ، وسلطان العقل.
قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ}.
هو ردّ على هذا الافتراء الذي افتراه المشركون على اللّه، بنسبة الولد إليه.. إذ كيف يكون له ولد، وهو سبحانه الخالق لكل شيء، مبدع السموات والأرض وما فيهن، أوجدهما من عدم، على غير مثال سبق..؟ فكيف يصح في عقل ذى عقل أن يتخذ اللّه ولدا، والولد إنما يطلبه الوالد ليكون سندا له، وامتدادا لحياته من بعده..؟ واللّه سبحانه وتعالى قوىّ لا يحتاج إلى سند، حىّ حياة أبدية سرمدية لا تنقطع.. فما الداعي لطلب الولد؟ وما الحاجة إليه؟.. ثم كيف يكون له سبحانه ولد، ولم تكن له صاحبة- أي زوج-؟
ولو كانت له صاحبة لكانت إلهة مثله.. إذ أن التوالد لا يكون إلا بين المتماثلين.. واللّه- سبحانه- منزّه عن المثل والشبيه! وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقرير لهذا الحكم، وتوكيد له.. إذ أن الخالق لكل شيء، لا يناسبه ولا يماثله شيء من مخلوقاته، وإذن فلا يكون له من تلك المخلوقات صاحبة ولا ولد.
وقوله سبحانه: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} الإشارة إلى اللّه سبحانه وتعالى هنا إشارة إلى المعبود الذي ينبغى أن تتجه إليه وجوه العابدين جميعا، فهو ربّهم الذي أوجدهم من عدم، وأمسك عليهم وجودهم بمقدرته، وأفضاله عليهم، وليس إله غيره كان له هذا الأثر فيهم، فهو خالقهم، وخالق كل شيء عبدوه.
أو لم يعبدوه.. فهو المستحق لأن يمجّد وأن يحمد، ويعبد.. وهو سبحانه قائم على كل شيء وكيل على ما يجرى في ملكه، وما يقع من مخلوقاته، من استقامة أو انحراف، ومن ولاء له، أو كفر به.. وسيجزى كلّ حسب عمله.
ووكالة اللّه سبحانه على هذا الوجود ليست كوكالة الوكيل عن الأصيل، وإنما هو وكيل عن هذه المخلوقات كلها، حيث وكلت إليه أمرها، وفوّضت إليه تصريف وجودها كيف يشاء، إذ كان كل موجود- أيّا كان سلطانه، وأيّا كانت قوته- عاجزا عن أن يملك لنفسه نفعا، أو ضرا.
وقوله سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} إشارة أنه سبحانه لطيف لا يرى، إذ لو رؤى لتحدّد، ولو تحدّد لتجسّم، ولو تجسّم لكان مركبا، ولو كان مركبا لكان مخلوقا.
سئل الإمام علىّ: هل رأيت ربّك؟ فقال: «نور أنّى أراه؟» أي هو نور يملأ الوجود، ترى في نور أنواره الموجودات.. أما النور فلا تمسك به عين، ولا يحدّه نظر.. فكيف يرى هذا النور؟
أما اللّه سبحانه وتعالى، فهو يرى كل موجود، ويبصر كل مبصر، فهو سبحانه يملأ عين المبصرين بنوره، ولكنهم لا يبصرونه.. {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الذي جلّ بلطفه عن أن يرى، وعلا بعلمه أن يغيب شيء عنه.